في إطار كشفه عن أحدث استطلاع أجراه، عقد منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية بتونس يوم25 جوان 2014 ندوة صحفية عرض خلالها نتائج الموجة العاشرة للباروميتر السياسي و الذي تم إجراؤه خلال الفترة الفاصلة بين 22 ماي و3 جوان بالتعاون مع المعهد الدولي لدراسات استطلاع الرأي IIPOS و قد شمل عمل هذا المقياس مسائل عديدة منها: تنفيذ الحكومة لمبادئ خارطة الطريق، والموقف من الأزمة الاقتصادية ونوايا التصويت النيابية والتشريعية.
ثقة مشروطة في الرباعي
يتعامل المواطنون بحذر مع الحوار الوطني ومع الرباعي الذي يتولى إدارته دون أن يعني ذلك سحب الثقة منه. فالذين عبروا عن ثقتهم في هذا الحوار هم أكثر من 60 بالمائة، أي أغلبية التونسيين، مما يؤكد ترسخ التمشي التوافقي لدى قطاع مهم من الرأي العام.
وعلى الرغم من أن الذين لديهم ثقة ضعيفة في هذا المسار يمثلون 40 بالمائة، الا أنه تظل الأغلبية متمسكة باستمرارية الرباعي في مهمته، وهو ما يؤكد أيضا أن التونسيين يرون بأن استمرار الحوار هو الخيار الوحيد والأفضل رغم الصعوبات.
هذا القدر المهم من التفاؤل ينطبق الى حد ما على قدرة حل بعض المشكلات الاقتصادية العالقة وفق طريقة الحوار السياسي من خلال حوار اقتصادي. ويتأكد هذا الأمر في اعتقاد 58 بالمائة ممن يرون بأن الحوار الاقتصادي يمكن أن يقدم حلولا للخروج من الأزمة في مقابل 42 بالمائة لا يتوقعون ذلك. كما يؤكد هذا المؤشر على حالة الانقسام والتذبذب التي عليها الرأي العام حول الموقف من مدى قدرة الأحزاب والمجتمع المدني على الخروج من الأزمة الاقتصادية.
التونسيون والزيادات والاستكتاب
بدا واضحا من خلال الاستطلاع بأن التونسيين سيقبلون على مضض الرفع في أسعار المحروقات وذلك بنسبة عالية تصل إلى 69 بالمائة، لكنهم غير مستعدين في المقابل تحمل الرفع في سعر المواد الغذائية حيث لم تتجاوز نسبة الذين أيدوا ذلك 17 بالمائة. ويبدو هذا الموقف متوقعا لأن القدرة الشرائية لعموم المواطنين قد تراجعت الى حد كبير. ورغم الجدل الذي اندلع بسبب القرار الذي اتخذته الحكومة فيما يتعلق بترشيد الاستهلاك داخل الإدارة، فإن 33 بالمائة من التونسيين يعتقدون بأن حذف الامتيازات الإدارية يمكن ان يمثل أحد الإجراءات التي من شأنها التخفيف من الأزمة الاقتصادية، إلى جانب 36 المائة هم مع مقاومة التهريب والاقتصاد الموازي. ويعني ذلك بأن المس من صندوق التعويض على حساب القدرة الشرائية هو قرار لا شعبي بامتياز.
من جانب آخر، يبدو من اللافت للنظر أن يعلن ستون بالمائة من المستجوبين بأنهم لا ينوون المشاركة في الاستكتاب الوطني في مقابل 40 بالمائة يساندون هذا الإجراء، وهي نسبة غير قليلة وتؤكد النجاح النسبي لعملية الاستكتاب وفق ما أكده وزير المالية منذ أيام. من ناحية أخرى، سجل الاستطلاع وجود موقف مضاد لظاهرة الاعتصامات والإضرابات التي يعتبرها 51 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع بأنها مسؤولة عن الأزمة الراهنة، وفي ذلك رسالة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. وباستثناء 6 بالمائة ممن يحملون مسؤولية الأزمة للوضع الأمني، فإن البقية لا يربطون بين الحالة الأمنية والحالة الاقتصادية. كما أن اللافت للنظر هو أن التونسيين لا يعتقدون بأن أزمة الاقتصاد العالمي لها تأثير كبير على الاقتصاد الوطني، حيث لا تزيد نسبة الذين قالوا بذلك مستوى 4 بالمائة.
في هذا السياق، لا يزال هاجس التشغيل يحتل الأولوية لدى المواطنين. ولهذا تم وضعه في أعلى سلم الأولويات داخل الجهات وذلك عند الرد على سؤال يتعلق بأهم القطاعات التي يجب الاهتمام بها على صعيد الجهات. وعلى مستوى الأفضلية، تتقدم مسالة التشغيل على حساب مسائل الصحة والتعليم.
الثقة في النخب السياسية
تعكس نتائج هذا الاستطلاع تحسنا في أرصدة الثقة السياسية، حيث جاءت تقييمات مستوى الثقة لكل من رئيس الحكومة ورئيس الدولة وكذلك رئيس المجلس الوطني التأسيسي أحسن من مستوى تقييمات الثقة المسجلة خلال الموجات السابقة (وخصوصا الموجتين 8 و9). وبقطع النظر ان كان السيد مصطفى بن جعفر (60 بالمائة من الثقة) قد استفاد من مرحلة ما بعد المصادقة عن الدستور، وكذلك الشأن بالنسبة لرئيس الجمهورية السيد المنصف المرزوقي (44 بالمائة من الثقة)، فان الرابح الأكبر هو بلا منازع رئيس الحكومة الجديد السيد مهدي جمعة والذي يترأس القائمة بنسبة 82 بالمائة من حجم الثقة الممنوحة ما بين مستوى متوسط وقوي. هذا التقييم الايجابي لا يقلل من أهمية التحفظات المسجلة في مستوى الانتظارات التنموية وحجم الانجازات، حيث يرى 52,10 بالمائة أن أوضاع التنمية في الجهات لم تتغير، كما يرى 58,50 بالمائة أن ارتفاع الأسعار متواصل، على الرغم من تصريح 66,80 بالمائة بأن الحالة الأمنية قد تحسنت بشكل مجمل بدليل تحسن الصورة المتعلقة بالدور الأمني (87 بالمائة) والعسكري (95 بالمائة)، الأمر الذي لا ينطبق على الموقف المعبر عن المخاوف المعلنة من الدور «الغامض» للنقابات الأمنية.
وفي نفس السياق، يرى 63 بالمائة أن المحكمة العسكرية التي نظرت في قضية شهداء الثورة والجرحى كانت قد تعرضت إلى عرقلة في عملها. أي أن جزءا واسعا من الرأي العام يشكك في مصداقية الأحكام التي صدرت، ولا يثقون في استقلالية المحكمة.أما فيما يتعلق باحترام الحكومة لمستلزمات خارطة الطريق، فيؤكد الاستطلاع أن 48,30 بالمائة يعتقدون بحصول تقدم في مجال تحييد المساجد، وهو مؤشر يجب أخذه بعين الاعتبار في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد، خاصة بعد الإجراءات التي أقدمت عليها وزارة الشؤون الدينية، على الرغم من أن ذلك لايزال يتطلب، في نظر العديدين، مزيدا من القرارات الهامة.
السلطات المحلية: الفراغ التمثيلي
في مقابل ذلك لا تزال الثقة في ممثلي السلطة المحلية ضعيفة. فالولاة لا يتمتعون إلا ب 8 بالمائة من مستوى الثقة القوية، في مقابل 92 بالمائة من الذين لا يثقون فيهم أو أن ثقتهم متوسطة. ويفسر ذلك ضعف هذا الصنف من المسؤولين وتراجع نفوذهم بشكل ملحوظ مقارنة بما كان عليه وضعهم قبل الثورة، وفي ذلك مفارقة لافتة للنظر. أما وضع أصحاب النيابات الخصوصية فهو لا يختلف كثيرا حيث أن 90 بالمائة من المستجوبين ليست لهم ثقة في هؤلاء، وبنسبة تفوق النصف وهو ما يمكن أن يفسر بضعف الشرعية الانتخابية المحلية (تأجيل الانتخابات البلدية).
مصادر تلقي الأخبار: «الوطنية» على رأس القائمة
يرى 79,2 بالمائة من التونسيين أن القنوات التلفزيونية لاتزال تمثل مصدرهم الرئيسي لتلقي الأخبار السياسية، ويمكن تعليل ذلك باستمرار ظاهرة اهتمام عموم المواطنين بالشأن العام بعد الثورة رغم اهتزاز ثقة الكثير منهم في الفاعلين السياسيين. كما لا تزال نشرة الثامنة مساء للأنباء بالقناة الوطنية هي الأعلى مشاهدة بمختلف مناطق البلاد (72 بالمائة). في حين احتلت الإذاعات المرتبة الثانية بنسبة 15,5. على أن الملاحظ أنه كلما تراجع سن المشاهدين ازداد حجم الإقبال على الإنترنيت ليبلغ 43 بالمائة من نسبة المتابعة في صفوف الشباب، حيث لا يزال الفايسبوك يشكل مصدرا هاما لتلقي الأخبار السياسية لدى هؤلاء، وإن كانت هذه النسبة لم تتجاوز 18 بالمائة على المستوى الوطني.
على أن هذا الاهتمام الواسع بوسائل الإعلام لا يعكس بالضرورة رضا التونسيين عن الإعلام. فهناك 36,70 بالمائة منهم يعتقدون أن الثورة لم تؤثر في الإعلام، في حين أن 32,90 بالمائة، كانوا صرحوا بأن الإعلام في بداية النجاح. ولم يعتبر أن الثورة قد نجحت في القطاع الإعلامي سوى 30 بالمائة. وهو ما يدعو الإعلاميين إلى تقييم أدائهم ومراجعة علاقتهم بالجمهور.
حول أداء الأحزاب
53 بالمائة من التونسيين يعتقدون أن الأحزاب السياسية غير جاهزة اليوم لخوض الانتخابات مقابل 47 بالمائة. وهذا المؤشر يعكس إلى حد كبير تقييم المواطنين لأداء الأحزاب وقدراتها. فالقسم الأوسع من الرأي العام له موقف نقدي من المعارضة، حيث أن نسبة 60 بالمائة يعتقدون أن دور المعارضة مبالغ فيه، بينما يوجد 9 بالمائة فقط من الذين يعتقدون أن المعارضة محقة في كل ما تقول وتفعل، وأن 35 بالمائة اكتفوا بالقول إن المعارضة تقوم بدورها. وفي العموم هناك نزعة غالبة للتعبير عن عدم رضا عن أداء المعارضة.
أما بالنسبة الى الظروف المتوقعة التي تحيط بالانتخابات القادمة فإن 64 بالمائة من المستجوبين يقولون بأنها ستتم في أجواء سلمية وبعيدة عن العنف، وهو ما يعكس استمرار تفاؤل المواطنين بتحسن الأوضاع الأمنية، وبقدرة الأجهزة العسكرية والأمنية على حماية الانتخابات التي يتوقع أنها لن تتأثر بالتهديدات التي تمارسها المجموعات المسلحة.
نوايا التصويت
أعلن 52 بالمائة بأنهم صوتوا خلال الانتخابات السابقة مقابل 48 بالمائة، وهي نسبة قريبة مما حدث يوم 23 أكتوبر 2011. وتكشف نوايا التصويت ديناميكيات خمس، وهي:
- استمرارية الاستقطاب الثنائي بين حزبي النهضة ونداء تونس
- اعادة تموقع حزب النهضة بعد التراجع الذي اقترن بتجربته في الحكم خلال التحالف الثلاثي (الترويكا)
- تراجع نسبي جدا لنوايا التصويت لفائدة حركة نداء تونس، قياسا بالصائفة الماضية
- استعادة حزب التكتل من أجل العمل والحريات لجزء من عافيته بعد أن كاد يعتبر من بين الأحزاب المهددة بالانقراض
- استعادة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية لجزء من تعاطفه لدى الرأي العام مما جعله في منافسة مع الجبهة الشعبية وفي وضع متقدم عن تيار المحبة.
أما فيما يتعلق بنوايا التصويت، فقد احتلت حركة النهضة المرتبة الأولى بنسبة نوايا بلغت 38 بالمائة، مقابل 33 بالمائة لصالح نداء تونس، و6 بالمائة لصالح التكتل، و5 بالمائة للجبهة الشعبية. أما التكتل فيحتل المرتبة الثالثة في نوايا التصويت. ويأتي بعده حزب المؤتمر والجبهة الشعبية ب 5 بالمائة لكل منهما. هذا ولا يزال تيار المحبة حاضرا وان كان ذلك بنسبة ضعيفة لم تتجاوز 4 بالمائة، ولا يعرف إن كان سيتمكن خلال الأشهر القادمة من استعادة مكانته السابقة والتي فاجأت الجميع. وبالنسبة الى الإحجام عن التصويت فقد كشف الاستبيان أن الشمال الغربي قد سجل أكبر نسبة في عدد الذين أعلنوا أنهم لن يصوتوا حيث بلغت 57,8، وتأتي في المرتبة الثانية منطقة الجنوب الشرقي بنسبة 53,3 بالمائة (نوايا رفض التصويت). وجميعها من المناطق التي تعتبر أنها لم تستفد من الثورة.
كما يلاحظ أن نسبة المشاركة المحتملة لحركة النهضة لا تزال منخفضة في صفوف من تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة، في حين ترتفع النسبة بين 51 و65 عاما. وهذا يعني أن حزب النهضة مازال يواجه صعوبات في أوساط الشباب، على الرغم من تحسن جزئي لصورته لدى المرأة ذات المستوى التعليمي المتوسط وربات البيوت.
ولا يزيد حزب نداء تونس عليها كثيرا في هذا الشأن، الا أنه يتميز بقابلية أكبر نسبيا لدى الشباب، كما أن الملاحظ ايضا هو أن جيل الخمسينات يبدو أقل استعدادا للتفاعل مع خطاب الحزب. وفيما يتعلق بالمستوى الثقافي فإنه كلما انخفضت درجة التعليم إلا وكان الميل أكبر الى حركة النهضة، في حين كلما ارتقى المستوى رجحت كفة بقية الأحزاب وخاصة النداء. كذلك نجد أن خطاب النهضة أكثر تأثيرا في وسط الأرامل والمتزوجين والمتقاعدين والباحثين عن عمل والإطارات العالية وربات البيوت، في حين أن قدرة النداء تكون أقوى في وسط المطلقات والمطلقين والمهن الحرة والطلاب والعمال والبائعين المتجولين. كما أن نصيب النداء أكبر في القطاع الخاص مقارنة بالنهضة التي لها حظوة أوسع في القطاع العام. وهذه مسألة تحتاج إلى بحث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية التي يمكن أن تفسر هذا التباين. وبالنسبة لنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية، يبقى الباجي قايد السبسي محافظا على الصدارة بنسبة 23.2 بالمائة، ويليه كم هائل من النوايا المعلنة في اتجاه عدم المعرفة بمن سيتم انتخابه وفي اتجاه عدم الرغبة في التصويت، ليأت من بعده حمادي الجبالي 14.4 بالمائة والمنصف المرزوقي 9 بالمائة.
الثقة في مؤسسات الدولة
تعلق السؤال الأول بأوضاع المؤسسة القضائية، حيث تين بان 62 بالمائة من المستجوبين اعتبروا أن الثورة لم تنجح في التأثير إيجابيا على وضع القضاء. وجاء ذلك نتيجة تأخير إصلاح السلطة القضائية، التي لا تزال عرضة لشكوك واسعة في صفوف المواطنين. فالذين يعتقدون بأنها في طريق النجاح لم تتجاوز نسبتهم 22,50 بالمائة مقابل 16 بالمائة فقط اعتبروا بأن الثورة قد نجحت في التأثير على القضاء. وقد يعود ذلك إلى المواجهة التي حصلت بين المحامين والقضاة، إلى جانب الأحكام الخاصة بشهداء الثورة وجرحاها. لكن المؤكد أن ثقة التونسيين في القضاء بقيت الى حد الساعة مهزوزة.
أما في ما يتعلق بمدى تأثير الثورة على السلطة التنفيذية فقد تم تسجيل أعلى نسبة سلبية، حيث صرح 62,50 بالمائة بأنهم يعتقدون بأن الثورة فشلت في أن تغير واقع هذه السلطة. وهو ما يعكس حالة أشبه بخيبة أمل. أي أن السلطة التنفيذية لم تكن في مستوى انتظارات أغلب التونسيين. وقد يعود ذلك إلى تغير الحكومات بسرعة، وتواتر الأزمات السياسية، إلى جانب النتائج الضعيفة في مختلف المجالات وخاصة الاجتماعية والاقتصادية. كذلك الشأن بخصوص السلطة التشريعية حيث عبر 50,80 بالمائة عن عدم تأثير الثورة على هذه السلطة، ولم يرحب بها سوى 26,80 بالمائة إلى جانب 22,40 بالمائة الذين اعتبروها في طريق النجاح. فبالرغم من الانتهاء من الدستور إلا أن الانطباع السلبي بقي الغالب في تقييم الجمهور لأداء المجلس الوطني التأسيسي الذي استمر محل نقد من قبل التونسيين.