نظّم الاتحاد العامّ التّونسي للشّغل يوم 16 جانفي 2020 بنزل قولدن توليب المشتل مائدة مستديرة بعنوان “9 سنوات بعد الثّورة” وذلك بإشراف الأخ الأمين العام.
وفي إطار مداخلة أستاذ علم الاجتماع السّياسي “عبد الوهّاب بن حفيّظ” والمتعلّقة بدور المجتمع المدني أوضح بأنّ الحديث عن المجتمع المدني يحيل إلى الاستنتاج التّالي: “الطّريق غير المكتمل” وعليه لا بدّ من تقييم تجربة السّنوات الأخيرة كالنّظر في العلاقة بين منظّمات المجتمع المدني بالثّورة والواقع السّياسي إضافة إلى مستقبل هذا المسار.
وأكّد الأستاذ عبد الوهّاب حفيّظ أنّ الموضوع مهمّ ويطرح العديد من التّساؤلات ومن بينها :
- إلى أيّ حدّ أصبحت أزمة الثّقة في الأحزاب السّياسيّة تمسّ مؤسّسات المجتمع المدني خاصّة وأنّ الانحدار المتواصل لمنسوب الثّقة قد يحيل إلى احتجاج انتفاضي.
- كيف يمكن تفسير الأزمة المذكورة خاصّة وأنّه بالاطّلاع على الأرقام الإحصائيّة المتعّلقة بنسبة الثّقة في المجتمع المدني التّي كانت في حدود 62 % في 2012 و 38 % في 2014 و 41 % في 2016 و 32 % في 2019 ، وعليه لا بدّ من وضع الأمور في إطارها.
وتطرّق الأستاذ إلى وجود بعض النّقاط التّي يتعيّن إيلائها الاهتمام اللّازم ومن بينها :
- خصوصيّة المجتمع المدني بتونس كما تبرزه التّجارب المقارنة في المشرق التّي تتّسم بسيطرة الصّبغة الأهليّة والعائليّة في حين أنّ ما يميّز المجتمع المدني بتونس هو الطّابع المدني والذّي تطوّر على مرّ السّنين (un effet de récurrence) وفي النّهاية هناك تراكم لسياقات وأحداث تاريخيّة لا بدّ أن يأخذ حقّ قدره. ولا ننسى بأن الاتحاد العام التونسي للشغل قد تأسس انطلاقا من احدى الجمعيات العريقة ، ونعنى بذلك الجمعية الخلدونية في قلب المدينة العتيقة وبحضور رموز تمثل النخبة الحديثة وأخرى تمثل النخب الإصلاحية المتنورة .
- النّزعة الاجتماعيّة للعمل المدني كظهور الجمعيّات التّعاونيّة ، وهو ما بدى بشكل عابر على يد محمد على الحامي ، الذي تأثر بتجربته في جامعة هامبولدت بألمانيا.
- كل ذلك أعطى ملمحا خاصّا للمجتمع المدني بتونس الذّي يعدّ من ناحية اصلاحيا ( من ناحية الفكر والثقافة ) و اجتماعيّا – تعاونيا .
وبشكل عام يرى المحاضر بأن تونس قد عرفت أربع موجات من العمل المدني وهي :
- الموجة المرتبطة بالحرب العالميّة الأولى.
- الموجة المرتبطة بالحرب العالميّة الثّانية.
- الموجة المتعلّقة بدخول مفهوم “الإجماع الوطني” في الثّقافة التّونسيّة مع أول انتخابات بعد الاستقلال، والمتصلة بثقافة الحزب الواحد، والذي فرض مشاركة مختلف النقابات المهنية (الشغل، الأعراف والفلاحين..) ضمن قوائم انتخابية موحدة.
- الموجة الرابعة لفك الارتباط ، بعد أحداث 28 جانفي 1978 بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل، وظهور التّيّار الديمقراطي داخل الحزب الحاكم ( أحمد المستيري، حسيب بن عمار ..الباجي قايد السبسي) وكذلك نشأة الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان إضافة إلى مزيد انتشار الجمعيّات المهنيّة.
- الموجة الخامسة التي نعيشها الى اليوم ، والتي بدأت من خلال إصدار المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرّخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات . كما أضاف المحاضر بأنه اذا كانت الأرقام الحاليّة تشير إلى وجود 18000 جمعيّة جديدة ( تضاف الى الخمسة الاف جمعية الموجودة قبل الثورة )، فانه لابد من التنويه الى أن هذا الرقم لا يأخذ في الاعتبار العدد الضحم للجمعيات المتوقفة أو المغلقة ، مما يؤكد أنّ عدد الجمعيّات الفاعلة لا يتجاوز الــ 3000 وهو رقم ضعيف وسخيف مقارنة بالتّجارب المقارنة في دول قريبة وشبيهة بتونس ، ناهيك عن الدول غير الشبيهة ( في فرنسا تبعث سنويا 70 الف جمعية ) في حين يتجاوز عدد الجمعيات المليون
وبشكل ما يمحور المحاضر السؤال الأساسي في طبيعة وحجم الأثر الذي هو للمجتمع المدني اليوم في المجتمع التونسي وتحديدا ضمن سياقات الانتقال الديمقراطي. من هذا المنطلق ، يرى بأن الأهمّ في كل ما قيل ، هو تحديد حجم تأثير المجتمع المدني في الواقع السّياسي ? وإلى أيّ مدى هناك ديمقراطيّة في المجتمع المدني؟ وحضورا فاعلا للمرأة؟ ولماذا يلعب المجتمع المدني دور سيّارة الإطفاء لتعويض غياب الدولة؟
كما تطرّق الأستاذ إلى التّقارير الدّوليّة المتعلّقة بتقاطعات تهمّ المجتمع المدني وإلى مستويات التّحليل التّالية :
- le macro système
- le micro système
- le méso système
- ففي علاقة بالمستوى الأوّل (le macro système): تمّ رصد بعض الاتجاهات، منها الثقيل ومنها العابر، ومن ذلك : تورّط بعض الجمعيّات في التّطرّف من دون التعميم لكون الامر يبقى استثنائيا وبمقتضى مرحلة محددة ما أدى إلى التنصيص على ذلك في التقرير المتعلّق بتصنيف وزراء الماليّة في الاتّحاد الأوروبي لتونس ضمن 17 بلدا تعتبر ملاذات ضريبيّة آمنة
كما أشار المتدخل الى أنه وعلى الرّغم من العديد من الجوانب السّلبيّة ثمة ماهو إيجابي كالتّجربة الفريدة للرّباعي الرّاعي للحوار الوطني ، ، إضافة إلى الحوار الصاخب الذي رافق الدّعوة لتسجيل الجمعيّات في السّجلّ الوطني للمؤسّسات RNE وما أحدثه ذلك من ضجّة . على أنه ومن بين المتناقضات يشير الأستاذ الى أن اللافت في هذه المرحلة هو بداية الانزلاق إلى ما يشبه نظام التّرخيص المسبق وهنا مربط الفرس الذّي يقتضي منا كلّ الحذر والانتباه.
- وفي علاقة بالمستوى الثّاني (le micro système) : يلاحظ المتدخل بأن الأوضاع المؤسسية الداخلية للجمعيات تشهد تطورا في اتجاهات مختلفة ، منعا الإيجابي من خلال نجاح الحوكمة الداخلية لبعض التجارب ، ومنها دون ذلك ، حيث أن تأسيس الجمعيّات لم يعد أمرا سهلا والكثير من مكوّنات المجتمع المدني لم تعد تحترم مقتضيات الإدارة والحوكمة ناهيك عن تعقيدات التمويل العمومي .
- وفي علاقة بالمستوى الثّالث (le méso système) : تحدث المحاضر عن أهمية تأثير المجتمع المدني في صناعة السّياسات في سياق يتّسم بحريّة التّعبير ، فبعد الثّورة لم يسمع عن الحوار الوطني إلّا في مرّات قليلة في سياق سياسي والانتقال إلى الحوار المجتمعي من خلال الاعتماد على مقاربة تشاركيّة فعليّة وهو ما تمّ في مناسبات قليلة تتعلّق بملفّي الصّحّة والتّربية لا غير ، وهنا يمكن الحديث عن عبارة نصف نجاح/نصف فشل ، حيث يبقى أهمّ عامل هو عدم جديّة السّياسي في الأخذ بمخرجات الحوارات المجتمعيّة إضافة إلى سيطرة المجمّعات المهنيّة واللّوبيات الاقتصاديّة التّي تدافع عن مصالحها بشكل شرس حيث أنّ ما حصل فعلا هو أنّ الحوارات المجتمعيّة لم تعط أكلها.
وأكّد الأستاذ أنّ دور المجتمع المدني :
- في علاقة بالأولويّات يجب أن لا يقتصر على البقاء في إطار مجال الحقوق السّياسيّة بل المرور إلى الحقوق الاقتصاديّة كالدّفع خاصّة نحو اقتصاد تضامني وتكريس العودة إلى المستوى المحلّي من خلال تشريك فعلي للاستحقاق المحلّي.
- كما أن هذا الدور سيضل مرتبط بتطوير رصيد الثقة والسؤال هو كيف يمكن إعادة الثّقة وتعزيزها حتى لا يكون مصير الثقة في مؤسسات المجتمع المدني هو ذات مصير الثقة في الاحزاب حيث أنّ كلّ المؤشّرات تؤكّد أنّ منسوب الثّقة يها وفق مؤشر سلم القيم العالمي World Value Survey قد تراجع إلى 7 % ( 2019 ) ممّا قد يزيد، لو حصل ، في تعميق أزمة المجتمع ككل .
كما تطرّق الأستاذ “عبد الوهّاب بن حفيّظ” إلى بعض الدراسات المتصلة بالبحث في تدنّي مستوى الثّقة في النّقابات الأوروبيّة وظهور تيّارات احتجاجيّة انتفاضية كــ «les gilets jaunes» مشبّها ذلك من خلال النموذج التحليلي لالبار هيرشمان A.Hirshman بسلوك المستهلك في علاقة بمنتوج معيّن الذّي يتوفّر على 3 خيارات وهي :
- الوفاء لمنتوج معيّن.Loyaulty للمنتوج المقدم في السوق ( العرض السياسي والاجتماعي )
- المشاركة من خلال “الصوت” بتحسين المنتوج (أو العرض السياسي والاجتماعي)Voice
- الخروج أي عدم شراء المنتوج (exit) ، وهنا فإنّ الأمر يتعلّق بالخروج ورفض المنظومة. والعرض السياسي والاجتماعي
واختتم الأستاذ مداخلته بالتّأكيد أنّ دور المجتمع المدني في تثبيت الدّيمقراطيّة يدعو جميعا إلى التّفكير/ وانه في كل الحالات من المطلوب النظر الى المكاسب المنجزة على قلتها كمعطى نضج مجتمعي، مذكرا بقول ج, هيكسلي “لئن نخطأ ونصيب في الحرية أفضل من أن نصيب في الاستبداد“.
وفي إطار تدخّل منسّق المائدة المستديرة الأستاذ “نزار بن صالح” أوضح الأخير أنّ مداخلة الأستاذ “عبد الوهّاب بن حفيّظ” تمحورت أساسا حول :
- تقديم نبذة تاريخّية حول تأسيس المجتمع المدني والبصمات الاجتماعيّة واللّيبيراليّة التّي اتّسم بها.
- التّنبيه إلى نقاط قوّة وضعف المجتمع المدني خاصّة الجوانب السّلبيّة المتعلّقة بالتّطرّف واستعمال التّمويل الأجنبي وتأثير وسيطرة بعض الطّوائف المهنيّة.
- ضرورة إعادة النّظر في الدّور المستقبلي للمجتمع المدني مع التّحذير من خطر خيار exit أي الخروج ورفض المنظومة.